السيّد محمّد الموسوي: المسيح نوري وخلاصي
بقلم الاسم لدى الناقد
2010 ,Jul 02
لمؤلفه جوزف فاضل، أي ( Le Prix à payer ) " صدر مؤخ ا ر باللغة الفرنسيّة كتاب بعنوان "مهما كان الثمن
السيّد محمد الموسوي سابقا. يتحدث فيه عن م ا رحل عبوره من الإسلام إلى المسيحية، ويسرد فيه بإسهاب مختلف
أنواع الإضطهاد والتعذيب والتهديد التي تعرّض لها وعانى منها بسبب اختياره السير على طريق السيّد المسيح.
إتّصل أحد أصدقاء موقع "الناقد" بالسيّد محمد الموسوي، فأجرى معه حوا ا ر ط ويلا كشف فيه ولأول مرة باللغة
العربية عن بعض هذه الم ا رحل والمآسي التي مرّ بها منذ اعتناقه للمسيحية وحتى هربه من الع ا رق إلى بلد عربيّ
أولا ثمّ إلى أوروبا.
______
س – منذ صدور كتابك باللغة الفرنسية لم تجرؤ حتى الآن أية صحيفة أو وسيلة إعلام عربية أن تتكلّم عن
اعتناقك للمسيحية أو عن هذا الكتاب الذي يعرف إقبالا منقطع النظير. لذلك نفتخر بأن نكون أول من ينقل بلغة
الضاد المأساة المرّة التي عانيت منها بسبب ذلك. ونشكرك جزيل الشكر على تجاوبك معنا وتفضّلك بالجواب عن
أسئلتنا.
بداية نودّ أن تحدثنا عن خلفيتك العائلية، من أنت ومن أية أسرة؟
ج. – أنا أنتمي إل أسرة "السيّد الموسوي" الشيعيّة العريقة في تاريخ الع ا رق والإسلام. يعود أصلها إلى النبيّ محمد
وبالتالي إلى سلالة الإمام الشهير موسى الكاظمي الذي يتحدر بدوره مباشرة من سلالة علي بن أبي طالب، إبن
عم النبيّ وصهره. أسرتنا لا بل عشيرتنا كبيرة ومتشعبة، لها فروع عديدة في إي ا رن وفي لبنان حيث يعتبر آية الله
الخميني والسيّد حسن نص ا رلله من عشيرتنا، أي من آل الموسوي. أما والدي، السيّد فاضل علي الموسوي، فكان
حتى وفاته عام 2001 زعيما وقائدا معروفا لهذه القبيلة، بالإضافة إلى ثروته الطائلة واعتباره من كبار الملاّكين
الز ا رعيين والإقطاعيين في الع ا رق. اشتهر بمعارفه المتعددة واختباره الواسع واعتداله الرصين وشخصيته المرموقة،
وهذا ما أهّله لزعامة شؤون القبيلة الموسوية بكاملها. إن أسرتنا هي في الواقع أسرة ارستقراطية تلعب دوما دورها
وتحافظ على ك ا رمة قبيلتنا في المجتمع الع ا رقي. وقد عمل والدي على توجيهي وٕاعدادي لتسلّم إدارة شؤونها عندما
يعجز ويتقدم في السنّ . لذلك كنت في طفولتي كما في شبابي أشعر بأن حملا ثقيلا سيلقى يوما ما على عاتقي،
فلم يتسنّ لي كباقي الأطفال أن أعيش طفولة سعيدة، هادئة، تعجّ باللعب واللهو والمرح. كان من واجبي معاشرة
ال ا رشدين وحضور الاجتماعات في القاعة الكبيرة المخصصة لذلك في دارتنا الفسيحة العامرة والتي يدعو إليها
ويت أ رسها دائما والدي. وهذا ما كان يسبّب لي الكثير من الضجر والملل والكآبة، بالرغم مما كنت أتمتع به من
امتيا ا زت ومن تقدير واهتمام خاص سواء من قبل الوالد الذي كان يعتبرني وريثه ووليّ عهده، أو من قبل أف ا رد
الأسرة الصغيرة أو القبيلة بكاملها بزعامة الوالد. لذلك كنت أعيش في جوّ من الرفاهية والترف والبذخ.
س – هل لك أن تحدثنا عن نظرتك إلى المسيحية قبل أن تعتنقها؟
ج – كنت، مثل كل مسلم، أعتقد أن المسيحية دين محرّف وأن المسيحيين كفرة، مشركين، أنجاس، حرّفوا كتبهم
المقدّسة ويمارسون دائما الكذب والنفاق والفسق والفساد. كنت أتجنبهم وأبتعد عن معاشرتهم، لأن الناس في
دارتنا كانوا دائما يرددون على مسامعنا أن المسيحيين يجتمعون في الكنائس، ليس للصلاة كما يفعل المسلمون
في الجوامع، بل لممارسة الفجور وارتكاب الفحشاء الجماعية.
س – متى حصل أول احتكاك بينك وبين المسيحية؟
ج – في بداية العام 1987 كان عليّ أن ألتحق بالخدمة العسكرية بعد أن تمكنت من التهرب منها مدة خمس
سنوات بفضل نفوذ والدي وعلاقاته المتينة بالمسؤولين السياسيين وٕامكانية ش ا رء ضمائر الموظفين بالمال. ولكن
في المرة الأخيرة كان لا بدّ لي من الانصياع. فتمّ إرسالي إلى كتيبة المشاة في قاعدة عسكرية تبعد عشرين كلم
عن شط العرب، وهو النهر الذي يفصل بين إي ا رن والع ا رق. كانت تلك القاعدة معدّة كمحطة است ا رحة للجنود
العائدين من جبهة القتال الع ا رقية الإي ا رنية، بالإضافة إلى كونها مستودعا للأسلحة. لدى وصولي إلى تلك القاعدة،
قيل لي أنني سأسكن في حجرة واحدة مع رفيق آخر يدعى "مسعود"، وهو إنسان طيّب ومسيحي. صدمت عند
سماع ذلك، وصرخت عاليا : "هل يمكن لإبن الموسوي، زعيم أكبر قبائل الع ا رق الشيعية، أن ينام في نفس الحجرة
مع شخص مسيحي يعتبر نجسا، تنبعث منه ا رئحة كريهة؟" غير أنه لم يكن بوسعي رفض ذلك، فرضخت للأمر
مكرها، بانتظار الفرج في اليوم التالي.
- هل حاولت ذلك فعلا؟
- عند دخولي إلى الحجرة كان مسعود موجودا فيها. رتبت أغ ا رضي وأخذت أ ا رقب هذا الرجل بكثير من الحذر
والريبة. وبعد مرور يومين، تبيّن لي أن "مسعود" ليس خبيثا بل إنسانا مهذبا ولطيفا ونظيفا، ولا تنبعث منه أية
ا رئحة كريهة، بعكس ما كنت أسمع في أسرتي بأنه يمكن التعرّف إلى المسيحي من ال ا رئحة الكريهة التي تنبعث
منه. عندئذ قلت في نفسي: لربما أرسلني الله سبحانه وتعالى لتبشير هذ الكافر وتحويله إلى الإسلام، وهكذا أكسب
أج ا ر عظيما في الجنة مع حور العين وأنهار اللبن والعسل وكل الملذّات التي وعدنا بها النبيّ . ولكن في الواقع لم
تكن هذه المكافأة مبتغاي الرئيسي، بل السمعة الحسنة التي سأتمتع بها بين عشيرتي والشهرة الرفيعة في
المجتمع الع ا رقي في حال نجحت في إقناعه بالإسلام.
- وهل بادرت عمليا إلى أي خطوة في هذا المجال؟
- في البداية، تجنبت كثي ا ر التطرق معه إلى المواضيع الحسّاسة، خاصة الدينية، ولكن كنت اتحيّن الفرص لأقنعه
بتفوّق الإسلام وتساميه على الأديان الأخرى.
- هل تمّ لك ذلك؟
- قبل نهاية الأسبوع الأول على وصولي، كلّف مسعود بمهمةخارج القاعدة. شعرت أثناء غيابه عن حجرتنا
المشتركة بانني مثل أسد في قفص، محبطا ، لا هدف لي ولا عمل. فأخذت أتفحّص المكان الذي يضع فيه
أغ ا رضه، فوقع نظري على كتاب صغير جذبني عنوانه كثي ا ر، "معج ا زت يسوع". أخذته وبدأت بق ا رءته. قبل ذلك لم
أسمع إطلاقا بمعج ا زت شخص يحمل هذا الإسم. حتى في القرآن لا يذكر شيء عن ذلك. وغداة عودة مسعود من
مهمته سألته عن يسوع الذي يتكلم عنه الكتاب، فأجابني حالا: "إنه عيسى بن مريم، وهو الإسم الذي أطلقه عليه
القرآن."
- هل واصلت السعي لتحقيق خطتك لأسلمة مسعود؟
- في إحدى المحادثات سألت مسعود هل عند المسيحيين كتاب مقدس مثل القرآن عند المسلمين، بهدف الإطلاع
عليه ودحض تعاليمهم ومعتقداتهم، وهل بإمكانه أن يوفر لي هذا الكتاب. ولكنه قبل أن يرفض ذلك، سألني: "هل
ق أ رت القرآن؟" أجبته: "حتما، فهل تعتبرني كاف ا ر أومسلما سيئا؟" ولكنه كرّر السؤال مشددا: "هل ق أ رت القرآن فعلا؟"
فأجبته بنوع من الحدّة: "ألم أقل لك إنني ق أ رته، وكذلك أعيد ق ا رءته مرة كل سنة في شهر رمضان." وهنا سألني
ببساطة وهدوء: "وهل فهمت معنى كل كلمة وكل آية وردت فيه؟"
لم أجرؤ أن أجيب عن سؤاله، بل لذت بالصمت، لأن سؤاله أربكني كثي ا ر، إذ شعرت وكأنه سيف قاطع ينحرني في
الصميم. هنا تذكرت كيف كان الأئمة يعلموننا ويقولون لنا: "إعلموا أن ق ا رءة القرآن من أوله إلى آخره واجب
وتكفي للمؤمن كي يكافأ عليها في يوم الدين، وليس فهم النصّ ."
غير أن مسعود إستغلّ الفرصة وعرض عليّ صفقة : "إذا شئت أن آتيك بالإنجيل للتعرف على تعاليم الدين
المسيحي ، فلا مانع لديّ، شرط أن تعيد أولا ق ا رءة الق رآن محاولا التعمق بمعانيه بتجرد وصدق ومنطق سليم دون
مواربة أو احتيال."
وهكذا بدأت بق ا رءة القرآن ق ا رءة نقدية، دون الإشارة بشيء إلى مسعود. ولكن القلق أخذ حالا يقضّ مضجعي، إذ
لم أجد شيئا في كتاب محمد يثبت اقتناعاتي السابقة التي أخذت تنهار سريعا. هنا بدأت بالتساؤلات المرّة: "ما
قيمة هذا الفخر والاعت ا زز الذي أتبجّح به عبر إسمي وقبيلتي وأصلي وسلالتي؟ ما الفائدة من كل ذلك؟ على ماذا
أبني حياتي إذا كان الإسلام ه ا رء وبناء فارغا؟ بمن وبماذا أؤمن من الآن فصاعدا؟"
- هل فقدت سريعا كل أمل وٕايمان بهذا الدين؟
- نعم، فقدت كل أمل، وجدت نفسي كتائه في الصح ا رء، لا نصير له ولا دليل. كلما حاولت التفكير بحياة وسلوك
محمد الذي كنت اعتبره القدوة الحسنة، وجدت نفسي أمام إنسان رهيب بكل معنى الكلمة. لم أتوقّف عن التساؤل:
"كيف يعقل أن يكون محمد نبيّا مرسلا من لدن الله، هذا الرجل الذي شرّع لنفسه تعدّد الزيجات والسبايا؟ كيف
يمكنني أن أقتدي برجل سلك عكس ما كان يبشر به؟ كيف يجوزله أن يطلب من إم أ رة مات زوجها أن تنتظر ثلاثة
أشهر وعشرة أيام قبل أن تتزوج، بينما هو تزوّج إم أ رة في نفس اليوم الذي قتل فيه زوجها مع أكثر من ستمائة
شخص؟"
وكذلك ا رودتني اسئلة كثيرة مؤلمة عن الإسلام وعن محمد تحرج كل إنسان يحتكم بصدق إلى العقل والمنطق.
انهار أيماني بالإسلام ومحمد ولم يعد بوسعي أن أفكر إطلاقا بتبشير مسعود بهذا الدين.
- ومتى بدأت بق ا رءة الإنجيل؟
- في أيار 1987 ،استيقظت مرة من النوم وأنا في حالة من الغبطة والانشراح وكأنني شفيت من مرض عضال
أدخل الكآبة والأسى إلى نفسي خلال الأسابيع الماضية. وعندها تذكرت حلما أتاني ليلا مفاده أنني كنت أقف على
ضفّة نهر صغير، ويقف أمامي على الضفة الأخرى رجل في العقد الخامس من عمره. ولم أدري ما الذي كان
يدفعني للوصول إليه. فبينما حاولت العبور وجدت نفسي معلّقا في الهواء، فارتعبت جدّا من عدم قدرتي على
العودة إلى الأرض. غير أن ذلك الرجل لاحظ مؤش ا رت الخوف على وجهي، فمدّ لي يده وساعدني على العبور. ثمّ
قال لي: "لا بدّ لك من أن تأكل من خبز الحياة كي تستطيع عبور هذا النهر وحدك." بقيت هذه الجملة محفورة في
عقلي، بينما تلاشى رويدا رويدا جمال ذلك الحلم.
وحال نهوضي من الف ا رش، لاحظت أن مسعود قد عاد من إجازته. فحيّاني بنظرة دافئة وابتسامة هادئة. ثمّ قدّم لي
كتاب الإنجيل الذي كنت قد طلبته منه قبل خمسة أشهر. ذكر لي بأن هناك أربعة أناجيل في كتاب واحد تر وي
حياة السيد المسيح، وكلها متوافقة في المضمون، ولكنها تختلف في طريقة الوصف والسرد. فبدأت بق ا رءة إنجيل
يوحنا، ووقعت على الفصل السادس حيث تشير إحدى الآيات إلى "خبز الحياة"، أي الكلمة التي سمعتها ليلا في
الحلم. فأعدت ق ا رءة تلك الفقرة التي يخاطب فيها المسيح تلاميذه قائلا: "أنا خبز الحياة، من يأتي إليّ لن يجوع
أبدا..." وهنا اعترتني رعشة رهيبة، وأشرق نور ساطع في حياتي فأعطاها معنى جديدا. وقعت في عشق السيّد
المسيح الذي تتحدّث عنه الأناجيل. وأدركت أن حلم الليلة الماضية لم يكن حلما تافها بل دعوة أو رسالة خاصة
موجّهة إليّ عبر هذه الكلمات. غمرني فرح روحاني، وتأكدت أن مجرى حياتي تغيّر تماما إبتداء من تلك اللحظة.
وهكذا بدأت رحلتي الطويلة مع السيّد المسيح، كما تغيّرت نظرتي تماما إلى المسيحية والمسيحيين. فبدلا من
الصلوات الخمس المفروضة يوميا في الإسلام، وجدت في الصلاة الر بانية، أي الأبانا الواردة في الإنجيل، صدى
عذبا في عقلي وبلسما لذيذا مهدئا في قلبي. فقلت في نفسي: إذا كان الله يتكلّم مثل الأب الذي يحبّ أولاده، وٕاذا
كان يغفر للخطأة ذنوبهم، إذا لن تكون علاقتي معه منذ الآن فصاعدا كما كانت سابقا، علاقة خوف ورعب
وابتعاد، بل علاقة حب كما هو الحال بين أف ا رد العائلة.
فبعد أن كنت مصمما على تبشير مسعود بالإسلام، لم تعد لديّ أية رغبة إلا الأكل من "خبز الحياة"،بالرغم من عدم
فهمي بعد لهذا السرّ .
- كيف تلقّى مسعود هذا التحوّل ال ا رديكالي في حياتك؟
- عندما أخبرت مسعود بالتحوّل الجذري في حياتي، كنت أتوقّع منه أن يبادرني بابتسامة عريضة وترحيب حارّ
واغتباط لا مثيل له. غير أنني فوجئت بقلق رهيب واضط ا رب داخلي أليم يعتري هذا الرجل ويشلّ بنيته الصلبة.
انفجر حالا بالغضب قائلا: "ولكنك ألا تعي ما تقول؟ ألا تعرف بأنهم سيقضون عليك؟" فأجبته: "هذا أمر مستحيل،
أسرتي تحبّني ولا يمكن أن ترضى بأن يصيبني سوء." عندئذ تفرّس بي مستغيثا: "إسمع جيّدا! أنت تعرّض حياتك
للخطر، وحياتي أيضا. في هذا البلد لا يستطيع أي مسلم تغيير دينه بهذه الطريقة، لأن عقابه سيكون الموت
المحتّم!" لم أكترث لإنذاره، بل أجبته: "هل نسيت أن المسيح مات أيضا، ورسله تعرّضوا كذلك للإضطهاد ولأقصى
المخاطر والعذابات حبّا به. فلماذا لا أقتدي أنا بهم إن كنت فعلا أحب السيّد المسيح؟". عندئذ طلب مني مسعود
أن نصلّي معا ونستلهم الروح القدس كي ينوّر عقولنا. ثمّ شدّد عليّ كثي ا ر كي لا أتكلّم عن هذا الأمر عندما أعود
إلى أسرتي. وهذا ما حاولت فعله إلى حدّ ما.
- ماذا تعني بعبارة "إلى حدّ ما"؟
- خلال المأذونية التي تلت، لم أكتم هذا السرّ تماما. فقد ذهبت، حال وصولي إلى البيت، ألى أحد آيات الله.
سألته عن أ ريه بإنجيل المسيحيين، فأجابني: "هناك أشياء صحيحة فيه وأخ رى خاطئة أو ناقصة، مثل مجيء
النبي محمد بعد عيسى، كما أن عيسى ليس إبن الله كما يدّعون." ثم طلب مني أن لا أعود إلى استشارته بمثل
هذه الأسئلة الصعبة والمضنية، قبل أن يضيف: "إن الناس يأتون إليّ لأرشدهم إلى ما هو ح ا رم أو حلال في
حياتهم. أرجوك أن تتخلّى عن كل هذه الأسئلة اللاهوتية، فهي معقّدة ولا فائدة منها."
- ماذا حصل معك بعد العودة من تلك المأذونية؟
- إن الأشهر الأربعة التي قضيتها في القاعدة العسكرية كانت من أسعد الفت ا رت في حياتي كشاب. والمؤسف أنها
مرّت كسرعة البرق، بالرغم من أن نمط الحياة في الخدمة العسكرية لم يتغيّر إطلاقا. غير أن التغيير الجذري
حصل في حياتي الشخصية الداخلية وفي تلك الحجرة الضيّقة التي كنت أتقاسمها مع مسعود.
- عمليّا كيف برز هذا التغيير؟
- الجديد في الأمر هو أننا بدأنا نصلّي معا ولساعات طويلة. فقد علّمني مسعود كيفية رسم إشارة الصليب، وتلاوة
صلاة الأبانا، والسلام الملائكي، وكيفية التأمل بكلام الإنجيل. وهكذا اكتشفت كيفية التقرّب من المسيح، وكيفية
الحوار الروحي معه. فقد بذل مسعود جهودا حثيثة ليشرح لي أس ا رر الإيمان التي يصعب فهمها على المسلم، مثل
سر التثليث.
- هل انعكس كل ذلك في حياتك؟
- في الواقع، تعجبت كثي ا ر من النظرة الجديدة التي أخذت القيها على محيطي والاعتبار الخاص لكل إنسان أعمل
أو أتعامل معه. لقد غابت تماما النظرة العلوية السابقة التي ورثتها بحكم وضعي العائلي والتي كانت بارزة في
علاقاتي مع الجنود رفاقي. فقد أصبح لديّ اندفاع لخدمة الآخرين ولمحبتهم كما يحبّهم المسيح. وفي عائلتي
كذلك، بات الحب الذي يعلّمنا إياه سيدنا يسوع المسيح شعاري مع كل الذين يحيطون بي، ولم يعد لديّ إلا هدف
واحد ألا وهو تقاسم الفرح الداخلي الذي يغمرني مع الآخرين الذين لم يشعروا حتى الآن بجمال حلاوته.
- بعد انتهاء الخدمة العسكرية وانقطاع أخبار رفيقك مسعود وعودتك إلى الأسرة، كيف تمكنت من مواصلة حياتك
المسيحية الجديدة؟
1988 مررت بحالة من الريب. لم أعد أتمكن من الإتصال برفيق الدرب، - - في بداية فصل الشتاء 1987
مسعود، الذي بفضله تعرفت على المسيح وتعاليمه السامية وحبّه لبني البشر. كنت أفرح كثي ا ر بالصلاة الجماعية
معه، وهذا ما شعرت بالحاجة إليه منذ أن افترقنا. لذلك قررت أن ابحث عن مواطنين مسيحيين في بغداد كي
أصلّي معهم وأتعرف على طقوسهم أملا بإيجاد من يساعدني في سبيل الحصول على المعمودية. كنت أغتنم فرص
غياب والدي عن البيت للخروج والبحث. فكلما اعتقدت انني سأجد من يساعدني من الكهنة، كانت الصدمة كبيرة
تأتي وتخيّب أملي لتحقيق أمنيتي. كم من مرة اغلق رجال دين مسيحيين بابهم في وجهي عندما يسمعوني أقول:
"أنا آمنت بالمسيح وأريد أن أتعمّد." كم مرة سمعت بعضهم يقول لي: "عندما يولد الإنسان مسيحيا يبقى مسيحيا،
وهذا هو الحال أيضا بالنسبة للمسلم." وعندما استغثت مرة بأحدهم قائلا له: "أستعطفك باسم المسيح ودمه!
أرجوك أن لا تطردني من الكنيسة"، ولكن جوابه كان حزينا ومؤلما: "ألأوامر يا أخي واضحة وصريحة وجازمة، لا
يسمح لنا إطلاقا بأن نسمح للمسلمين بدخول كنائسنا." وبعد بحث طويل وخيبات أمل عديدة، لم يبق لي إلا
الصلاة وق ا رءة الكتاب المقدس الذي كنت أجد فيه ع ا زء لعذابي ومدعاة للأمل. فكنت أتذكر دائما وأعود إلى ما قاله
لنا المسيح في الفصل الخامس من إنجيل متى: "طوبى لكم إذا عيروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة
من أجلي كاذبين. افرحوا وتهلَّلوا لأن أجركم عظيم في السموات. لأنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم ."
كذلك كنت أتذكر كلام مسعود وتحذي ا رته: "كل مسلم يحاول الانتماء أو الإندماج في حماعة مسيحية ع ا رقية
سيواجه حتما حواجز عديدة." فبفضله كنت أثمّن شجاعة المسيحيين الأولين الذين عانوا الكثير من الاضطهادات.
وكذلك بفضل الصلاة وق ا رءة الكتاب المقدس وسير الشهداء لم أفقد الأمل إطلاقا ولم يضعف إيماني بالمسيح.
- في هذه الأجواء من البحث والتجاذب، بين الأمل والخيبة، بين العذاب والرجاء، كيف كانت علاقتك ب والدك،
وكبف تمّ تزويجك؟
- في تلك الفترة، كان همي الوحيد الابتعاد عن البيت والعيش في مكان آمن أستطيع أن أمارس فيه إيماني بكل
حرية ودون خوف أو قلق. لم أفكر إطلاقا بالزواج أو بتأسيس عائلة ولا بخلافة والدي على زعامة القبيلة، بالرغم
من كل الامتيا ا زت والسلطان المطلق، والثروات الطائلة التي ستأتمتع بها.
غير أن والدي كان يخطط لي عكس ذلك. في بداية العام 1992 فاجأني بقوله: "يا ابني، أريد أن أزفّك خب ا ر
سعيدا، لقد وجدت لك عروسا." لم أستطع سماع ذلك، فأجبته للتوّ ا رفضا: "ولكن لا ميل لي الآن للزواج." فلم يبال
بكلامي بل قاطعني قائلا: "لقد دفعت المهر وأعطيت كلامي لأسرة العروس. إعلم أن شرفي وك ا رمتي أصبحا على
المحك، والرفض غير وارد."
وهكذا تزوجت من آنسة لم أكن أعرفها مسبقا. لا أريد الدخول الآن في كل التفاصيل. وقد رزقنا الرب مولودنا
الأول، "أزهر"، في نفس السنة، وبالتحديد في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول ، يوم عيد الميلاد.
وهذا ما سمح لي بالسكن مع زوجتي وٕابني في بيت مستقل وبعيد عن م ا رقبة الوالد وأف ا رد الأسرة. وقد وفّر لي هذا
الوضع الأسري الجديد إمكانية التحرّك ومواصلة البحث مجددا عن مجموعة مسيحية أنضم إليها وتساعدني على
اقتبال سر المعمودية.
- هل نجحت في هذه المحاولة الجديدة؟
- رغم فشلي في المحاولات السابقة، لم أفقد الأمل. في صيف 1993 أعدت من جديد البحث عن المناطق التي
يسكنها المسيحيون في بغداد. نجحت بعد عناء طويل في الوصول إلى أحد كبار المسؤولين في إحدى الكنائس
الذي قبل أن يستقبلني بعد محاولات مضنية. وما أن كشفت له عن إسمي وأسرتي المسلمة وٕايماني بالمسيح
ورغبتي في قبول سرّ المعمودية، حتى ارتعب وثار غيظه وطردني خارجا. آلمني كثي ا ر هذا التصرّف بالرغم من
تفهمي لخوف المسيحيين. إلا أن الرب كان يدبّر شؤوني. في نفس اليوم، أعلمني مواطن مسيحي بسيط بأن
الكاهن الذي يخدم رعيته، يرغب في استقبالي حالا. وهكذا تعرّفت إلى رجل دين مسيحي آخر أدرك تماما صدقيّة
إيماني وسمح لي بالتردد إلى كنيسته ومشاركة المؤمنين في الاحتفالات والصلوات الدينية.
- هل تمكنت من إخفاء بادرتك الجديدة عن أسرتك وخاصة عن زوجتك؟
- كنت في الواقع عازما على ترك زوجتي والهرب إلى منطقة بعيدة أستطيع فيها عيش إيماني وحياتي المسيحية
بأمان وهدوء. غير أن ولدنا أزهر غيّر حياتي وتفكيري ، ولم يعد بإمكاني أن أعيش في الخفاء عنه وعن زوجتي
التي أنجبت لي هذا الملاك. فبعد معاناة أليمة، صارحت زوجتي التي كانت متمسكة بإسلامها ومتديّنة كثي ا ر،
بحقيقة محبة المسيح ولماذا آمنت به. ولكنها اغتاظت من ذلك وهربت من البيت علئدة إلى بيت ذويها. غير أن
الربّ منحها القوّة والصبر كي تحتفظ بهذا السر. ثم بعد عودتها إلى البيت ، نجحت في اقناعها بق ا رءة الإنجيل كي
تتأكد من سمو الإيمان بالمسيح. وهكذا بدأت، بعد رفضها القاطع ومحنة أليمة تجاوزتها، ت ا رفقني مع ولدنا إلى
الكنيسة وتشترك في الطقوس الدينية الرعوية، أملا بأن نتقبل جميعا سر المعمودية ونقبل جسد المسيح الذي هو
خبز الحياة. غير أن الكاهن الذي تعرفنا إليه وقبل بم ا رفقتنا روحيّا لم يجرؤ على تعمدينا خوفا من السلطات
الدينية وبالتالي السياسية.
- هل فقدت الأمل بسبب ذلك؟
- كلاّ، بل اخذت ابحث عن كنائس أخرى. وبعد عناء تعرفت على كاهن ا رهب من أصل اجنبي،يدعى "الأب
غب﷼"، يتكلم العربية بطلاقة ا رئعة. فبعد حوار طويل ومكثّف معه دام فترة من الوقت، وبعد نشوء صداقة بيننا
وبينه، قبل أن يعمدنا بعد أن يقوم بإعدادنا وتربيتنا المسيحية الضرورية لقبول هذا السرّ العظيم.
- هل تكللت فترة الإعداد بالأمل المنشود أم لا؟
- خلال فترة الإعداد للمعمودية، كان لديّ حدس يؤرقني بأننا لن نصل إلى النهاية. بالرغم من الاحت ا رز بالنسبة
للعائلة، توقفت عن المشاركة في الممارسات الدينية التي تشير إلى إنتمائي للإسلام. مثلا توقفت عن الصلاة
وم ا رفقة أف ا رد القبيلة كل يوم خميس في زيارة الأماكن المقدّسة الشيعيّة في كربلاء. وهذا الأمر أثار كثي ا ر قلق
العائلة.
فمساء أحد أيام صيف 1997 ، وأثناء غيابنا عن البيت جاء إخوتي وأولاد عمّي وبعض أف ا رد من قبيلتنا إلى بيتنا
وأخذوا يفتّشونه، فوجدوا الكتاب المقدس الذي كنت أضعه دائما في مكان بعيد عن الأنظار، كما سأل وا إبننا أزهر
إلى أين يذهب كل يوم أحد معنا، فأجابهم برسم إشارة الصليب على وجهه. وهكذا انفضح أمرنا أمام العائلة وخرج
للعلن.
- ما كانت ردود فعل العائلة؟
- في صباح اليوم التالي استدعاني الوالد إلى قاعة الإستقبال. وما أن وطأتُ عتبة الباب حتى انهارت عليّ
الأيادي بالضرب. غُلّت يداي ورجلاي بالسلاسل وألزمت على الركوع أرضا. وعندما رفعت أ رسي قليلا لأرى من هم
الذين مارسوا ذلك، تبيّن لي بأنهم إخوتي وأعمامي وأولادهم، وبينهم حسن، المسؤول في جهاز المخاب ا رت. ولمّا
سألت الوالد عما حصل، أجابني باحتدام وهيجان جنوني: "أتسأل عمّا حدث أنت الذي أصبحت مسيحيا؟ أنت
مريض أو مجنون؟ هل تتخيّل العار الذي سيلحق بي، أنا والدك؟ أنت تعرف جيّدا أنه، عندما يتحوّل أحد أولاد
قبيلتنا من المذهب الشيعيّ إلى المذهب السنّي، لا يسمح بعد ذلك، حتّى لأهله، بالدخول إلى دارنا ولا إلى
مساجدنا. والآن ماذا سيُقال عن أحد أولادي الذي اعتنق المسيحيّة؟ لم يبق لي الآن إلا وضع حجاب على وجهي
عندما أخرج ألى الشارع تماما كما تفعل أمّك." وكذلك والدتي التي دخلت القاعة، أخذت تولول وتتقيأ عبا ا رت
رهيبة: "أقتلوه، اقتلوه، وارموه في البزل!".
- ماذا حصل بعد ذلك؟
- بعد مشا و ا رت جرت بين والدي وباقي أف ا رد الأسرة، نقلت في صندوق سيارة إلى النجف. في الطريق شعرت
بالخوف من الموت دون قبول سرّ المعموديّة. فحال توقف السيارة هناك، قادتني أيدي إخوتي واقربائي، مكبّلا
بالسلاسل، إلى مكتب آية الله الإمام محمد باقر الصدر الذي أصدر، بحضور والدي وباقي أف ا رد الأسرة الذين
ا رفقوه، فتوى تقول : "إذا ما تأكد أنه تحوّل إلى المسيحية، فإنه يستحقّ الإعدام، والله سيكافئ منفذ هذه الفتوى."
عندما سمعت ذلك تنفّست الصعداء وشعرت بأن مهلة إضافية بالحياة أعطيت لي. غير أن الإخوة أعادوني إلى
صندوق السيّارة التي اتّجهت نحو بغداد، دون معرفة المصير الذي ينتظرني.
- ألم ت ا رودك في الطريقة أية فكرة عمّا سيفعلون بك؟
- في الحقيقة، كنت في حال من الضياع. أذكر فقط أن السيّارة توقّفت بعد مرور ساعتين من الوقت. وعند
إخ ا رجي من صندوقها، وجدت نفسي وجها لوجه مع إبن عمي حسن، أحد المس ؤولين في المخاب ا رت العامّة، أمام
أحد السجون الأكثر شهرة في عهد صدّام، والمعروف باسم سجن "الحاكميّة" والذي كان يضمّ عادة الأسرى
السياسيين والمعارضين للنظام. سلّمني حسن هناك إلى ضابط آخر وتركني دون أن يوجّه لي كلمة واحدة. أودعت
. حالا في هذاالسجن، حيث جرّدت من هويتي وأصبحت فقط صاحب الرقم 318
- ماذا جرى معك في السجن؟
- في هذا السجن، خضعت لعمليات استنطاق وتحقيقات عديدة. أ ا رد المحققون معرفة الكنائس التي ترددت إليها،
وأسماء المسيحيين الذين تعرّفت إليهم، ومكان سكنهم، ومن هو المسيحي الأول الذي تج أ ر ووجّه إليّ الكلام. هذا
كل ما أ ا ردوا معرفته كي أعفى من أي تهمة، واستعيد حريّتي. غير أن المسيح وهبني النعمة والقوّة كي لا أجيب
عن أي سؤال، وأتحمّل كل أنواع التعذيب والضرب والإهانات بسبب ذلك. كانت حياة السجن مؤلمة للغاية. ساءت
صحتي كثي ا ر بسبب انعدام العناية الصحية وسوء التغذية والجوع والمعاملة والمرض وتحمّل كل ظروف السجن
القاسية التي لا يستطيع تصوّرها إلا من عرفها عن قرب وعانى من م ا ررتها. وبعد قضاء سنة وستة أشهر في هذا
السجن، جاء يوما أحد الح اّ رس، حاملا بعض الأغ ا رض، أي الثياب التي تخصّني ونادى الرقم 318 ليقولوا لي:
أنت حر. لم أصدّق ما سمعت. لم يطلب مني شيئا إلا التوقيع على وثيقة أتعهد بموجبها أن لا أتحدّث إطلاقا عمّا
حدث معي في السجن وذلك تحت طائلة عقوبة الموت. غير أن شعو ا ر غريبا انتابني أثناء خروجي من قفص
السجن إلى عالم الحريّة.
- إذا، خرجت من هذا السجن الرهيب في شهر تشرين الأول / أكتوبر عام 1998 ، ولكن كيف تصوّرت مرحلة ما
بعد السجن؟
- في الفترة التي سبقت خروجي من السجن، كنت أفكر، إذا ما أطلقت حريّتي، بالهرب إلى شمال الع ا رق واللجؤ
إلى قرية مسيحية هناك والإختباء فيها، وذلك تجنبا للعيش في منفى داخل أسرتي وفي حالة مستمرة من الكذب
والنفاق مع ضميري ومع محيطي. فمن الصعب جدا أن أنسى خيانة هذه الأسرة والمعاملة السيئة التي فرضتها
عليّ والعذابات النفسية والجسدية التي سبّبتها لي. فالعلاقات العاطفية التي كانت تربطني بهذه الأسرة ا زلت نهائيا.
فقط الابتعاد عن والديّ وٕاخوتي سيجنّبني اللجوء إلى التوتر ولربما إلى العنف.
- ما الذي دفعك إلى العدول عن هذه الخطّة؟
- هنا تساءلت كثي ا ر أمام ضميري وأمام سيدي يسوع المسيح، كيف يحقّ لي الإقدام على ذلك، تاركا و ا رئي زوجتي
وأولادي؟ لم يكن بوسعي أن أطفئ بسرعة الشوق الذي يشدّني إلى رؤيتهم والعيش معهم والذي يعلو فوق كل
اعتبار. ومن جهة أخرى، لن أستطيع العيش إطلاقا بسلام وب ا رحة ضمير إذا تركتهم تحت رحمة سلطة قبيلتي
البغيضة، خاصة أنهم لن يتمكنوا أبدا من ممارسة حياتهم المسيحية، وسيلزمون حتما بالعودة إلى ظلامية
الإسلام. وهذا أمر لن أتمكن من تحمّله إطلاقا.
- هذا ما يدلّ على عودتك إلى البيت. كيف حصل ذلك وكيف استقبلتك العائلة؟
- نعم، طلبت من سائق تاكسي أن ينقلني إلى مسكني، وقبل وصولي بمائة متر تقريبا، شاهدت أخي علي في
الطريق، فأوقفت التاكسي وطلبت من أخي أن يدفع لسائق التاكسي أجرته لعدم توفّر المال معي. ثُمّ أسرعت إلى
البيت. خفت أولا أن لا تعرفني زوجتي لأنني بسبب التعذيب وأوضاع السجن والخوف فقدت أكثر من نصف وزني
وتغيّرت ملامحي قليلا، غير أنها حالما تعرفت عليّ أشرق وجهها بهجة وغمرتني ببسمة مفعمة بالحنان والفرح
والسعادة. ولكننا لم نتمكن من تبادل عواطف الشوق والمحبة إذ تفاجأنا بص ا رخ عدد من الناس خارج البيت. خفت
حالا من أن تتكرر الأحداث التي عشتها قبل ستة عشر شه ا ر، عندما اقتحم إخوتي البيت واقتادوني إلى بيت الوالد
وجرى ما جرى. فكّرت حالا بالهرب، ولكن تبيّن لي سريعا بأن الهيصة كانت للابتهاج ولا للغضب. فقد قررت
العائلة الاحتفال بعودتي إلى البيت، وكأنهم يحتفلون بزواجي. أما الهدف من كل ذلك فيعود فقط إلىالحفاظ على
سمعة والدي وليس الفرح الحقيقي بخروجي سالما من السجن. فبدلا من أن يصرّحوا بحقيقة ما حصل، قاموا ببثّ
إشاعة بين الجي ا رن وفي الحيّ بأن إلتباسا حصل بيني وبين شخص آخر مطلوب للعدالة، فجرى توقيفي وسجني
خطأ. وعندما القي القبض على الشخص المطلوب وانكشفت الحقيقة، تمّ تحريري سريعا، ولذلك يحتفلون لإبعاد
الشبهة وحفظ ماء الوجه.
وهكذا أدركت جيدا أسباب توقيفي وتعذيبي كي أعترف بأسماء المسيحيين الذين رحّبوا بي وساعدوني على معرفة
السيّد المسيح، كي تُبعد عنّي كل مسؤولية ويتمّ غسل شرف العائلة. إضافة إلى ذلك، علمت أثناء المحادثات أن
إبن عمي، حسن، المسؤول في المخاب ا رت، توفي بعد ثلاثة أشهر من دخولي إلى السجن، وهذا ما فسّر لي سبب
التوقف عن التحقيق معي وتعذيبي منذ تلك الفترة. وهذا ما يدلّ أيضا على أنّه، كمسؤول في جهاز المخاب ا رت، هو
الذي طلب إج ا رء التحقيق واستخدام العنف والتعذيب معي لحثّي على إعطاء المعلومات المطلوبة.
- هل تمكنت بعد عودتك سالما إلى البيت استعادة حياتك الطبيعية بسهولة؟
- بعد انتهاء الاحتفال، لم يعد بإمكاني الإنف ا رد بزوجتي إلا في غرفة النوم حيث أعلمتها همسا بكل ما جرى معي
منذ مغادرة البيت، وذلك لأن الوالد كان منذ توقيفي قد طلب من أخي علي وأختي شيماء البقاء والسكن معنا في
البيت لم ا رقبة تصرفاتنا وتحركاتنا.
- ما كان ردّ فعل زوجتك عندما أطلعتها على ما حدث وكيف عاشت أثناء غيابك؟
- ما أن باشرت بإخبارها عمّا جرى حتى بدأت تتغيّر تباشير وجهها وتميل إلىالشحوب والتوتر والأسى. لم يعلمها
أحد بحقيقة الأمر. قيل لها فقط بأن خطأ قضائيا جسيما وقع وتمّ بسببه توقيفي، ولم يستطع أحد فعل شيء حتى
الآن. وهنا همست لي بم رارة قائلة: "الآن فهمت جيّدا لماذا لم يتوصّل والدك، بالرغم من ثروته الطائلة ونفوذه
الواسع، من تحرير إبنه المدلّل. تصوّر هذا الخبث وهذا الاحتيال، أنا أشعر الآن بالخيانة والاحتقار والإهانة".
أما كيف عاشت زوجتي في فترة غيابي، فقد بقيت منغلقة على نفسها مع الأولاد. في بيئتنا الإسلامية وخاصة
الشيعيّة، لا تخرج الم أ رة من بيتها دون زوجها. وعندما يكون زوجها في السجن، تعتبر هي أيضا سجينة البيت.
لذلك سكن أخي وأختي في بيتنا بحجة م ا رفقتها في محنتها.
لقد أدركت تماما صعوبة العيش في ظلّ الم ا رقبة المستمرة التي يمارسها عليها ذوو زوجها وتألّمت من ذلك كثي ا ر.
فلم يكن بإمكانها زيارة ذويها إلا بإذن خاص من والدي وشرط أن تترك ولدنا أزهر عنده. هنا أشير إلى أن والدي
تعلّق كثي ا ر بهذا الولد، لكونه الذكر الوحيد بين أحفاده. فقد خصّه عند الولادة بمنطقة ز ا رعية شاسعة. ولكن زوجتي
كانت ترتعب ما أن يبتعد ولدنا عن نظرها. فكانت تفضّل البقاء في البيت، وتترك أمها تأتي لموآساتها في محنتها.
ولكن لم يكن بوسعها أن تمنع ولدنا من الذهاب إلى بيت جدّه عندما يطلب هذا الأخير رؤيته. وهكذا عانت زوجتي
الكثير من المعاملات الخبيثة من قبل أف ا رد عائلتي.
- هل تمكنت بسهولة من العودة نوعا ما إلى العيش في ظلّ حياة طبيعية والتردّد إلى الكنيسة كما في السابق؟
- اثناء غيابي وضعت العائلة يدها على أو ا رقنا الثبوتية وعلى كمية المال التي كانت بحوزتنا، فأصبحنا بالتالي
مرتبطين ماديّا برحمة الوالد الذي كان يكلّف خدّامه بش ا رء الحاجيات الضرورية لنا. حتى الأ ا رضي الز ا رعية
والأعمال التجارية التي كانت سابقا تدرّ عليّ مداخيل كافية، حرمتُ منها ونُقلت إلى إخوتي. وكذلك الم ا زرعون
والعمّال عندنا الذين كنت قد سلفتهم سابقا مبالغ من المال رفضوا تسديدها لي دون موافقة الوالد الذي أ ا رد إذلالي
وتحطيمي نفسانيا وماديّا. وهكذا مرّت ستة أشهر تحت الم ا رقبة الشديدة من قبل العائلة وكأنني انتقلت من سجن
إلى آخر.
في هذا الجوّ قررت أنا وزوجتي عدم اللعب بالنار أملا بالوصول إلى مخرج ينقذنا. فامتنعنا عن الذهاب إلى
الكنيسة، خاصة بسبب وجود "م ا رقبين دائمين" في البيت، وتجنبا لتعريض المسيحيين لمشاكل خطيرة. فلم يبق لنا
إلا الصلاة ليلا في غرفة النوم إلى الرب يسوع كي يعضدنا في تحمّل المصاعب ومواجهة المصير.
- وهل بزغ أمامكما أي بصيص أمل في الأفق؟
- في صيف 1999 اشتدّ الحرّ كثي ا ر في الع ا رق، فأخذت أتغيّب أحيانا وحدي عن البيت، وعند عودتي كنت ألاحظ
أن "الم ا رقبَين" يغطّان في سباط عميق أثناء قيلولتهما الروتينية بعد الظهر وقد ضعف اهتمامهما بتحركاتنا. لذلك
قررت استخدام الفرصة للتمكن من العودة إلى لقاء "الأب غب﷼". فبعد محاولات عديدة وٕايجاد مبر ا رت للخروج من
البيت، نجحت في الوصول إليه مجدّدا وٕاعلامه بكل ما حدث لي خلال غيابي عنه مدة سنتين. كما سألته عن
إمكانية مواصلة التحضير للمعمودية. فوعدني خي ا ر. وهكذا استعدت بصيصا من الأمل بعد هذا اللقاء السريع.
- وهل تمكنت من تجاوز كل العقبات في سبيل ذلك؟
- كان علينا أنا وزوجتي أنا نخلق أعذا ا ر وهمية للخروج من البيت، مثل نشؤ خلافات دورية بينها وبيني بسبب
معاملتي السيْئة لها، وهربها أحيانا إلى بيت ذويها، واضط ا رري بعد ذلك للذهاب و ا رءها وطلب المعذرة منها،
واسترضائها كي تعود إلى رعاية أطفالنا. بحجة ذلك، كنت أستغلّ هذه الظروف للخروج والذهاب إلى لقاء الأب
غب﷼.
وبعد عدة لقاءات وحوا ا رت، فاجأني قائلا: "يا عزيزي، أنت لم تتعمّد بعد، ولكنك بلا ريب أنت مسيحيّ حقيقيّ أكثر
منّي ومن مسيحيّين كثيرين هنا. غير أن المسيحي الحقيقي يطيع أوامر المسيح وبالتالي أوامر الكنيسة التي
تمثّله على الأرض. لذلك، واحت ا رسا من مخاطر عديدة، آمرك، باسم الكنيسة، أن تغادر الع ا رق بأقرب وقت ممكن."
لم أتصوّر إطلاقا أن أسمع من "الأب غب﷼" هذا الق ا رر. فبعد محاولات وحوا ا رت واهية معه، وبعد عناء مضن حول
المصير المجهول والتفكير بمستقبل غامض للأسرة، اضطر رت أنا وزوجتي للرضوخ إلى هذا الأمر وتسليم أمرنا
إلى السيّد المسيح الذي حمانا حتّى تلك الفترة من كل المخاطر.
- هذا يعني أنك عزمت على ترك الع ا رق. فكيف تمكنت من الإعداد لهذه المخاطرة الصعبة في ظلّ كل الحواجز
والصعوبات الإدارية والرقابة العائلية الصارمة؟
- في بداية العام 2000 ، بدأت بشكل سريّ للغاية أفكّر كيف يمكننا الإعداد لذلك في مثل هذه الأجواء. كان عليّ
أولا استخ ا رج أو ا رق ثبوتية جديدة، بعد أن وضع الوالد يده سابقا على كل الوثائق الخاصّة بنا وصادرها. وقد كلّفني
ذلك عناء كبير مع الإدا ا رت المختصّة لاستصدار هويات وجوا ا زت سفر جديدة. كانت هناك أيضا عملية اختيار
الحاجات الضرورية التي لا غنى لنا عنها والتخلّي عن كل ما هو ثانوي. أما همّي الأكبر فكان توفير كمية من
المال تؤهلنا للعيش أقلّه شه ا ر قبل أن يستقرّ بنا الحال في مكان ما من العالم. فعندما ضاقت بنا الأحوال ولاحظت
زوجتي الصعوبات التي عانيت منها في جمع مبلغ من المال، جاءتني بعفوية ا رئعة من تلقاء نفسها وقالت لي
دون أي تردد: "حبيبي،هذه هي جواهري، لا قيمة لها عندي أمام محبة السيّد المسيح. حاول بيعها والحصول على
كمية من المال قد تكفينا في البداية حتى يتدبّر الربّ أمرنا."
وهكذا جرى كل هذا التحضير في فترة دامت حوالي أربعة أشهر تعرّضنا خلالها لحواجز معقّدة كان علينا تجاوزها
والتستر خلال تحركاتنا واللجؤ باستم ا رر إلى التذرّع بأمور واهية واستنباط ن ا زعات وهمية بيني وبين زوجتي،
لتغطية كل تحرّك نقدم عليه.
- إلى أين توجّهتم بعد إتمام كل التحضي ا رت؟
- توجّهتا إلى بلد غربيّ حيث تأمّنت لنا بعض الإتصالات مع مسيحيّين مقيمين هناك يمكنهم مساعدتنا وتأمين
مأوى لنا عند وصولنا. لدى مغادرتنا بغداد بالسيارة في اتجاه الحدود الأردنية تنفّست الصعداء قليلا، ولكن بدأ
حالا همّ المرور على نقطة الم ا رقبة الع ا رقية على الحدود بين البلدين والتي وصلنا إليها بعد عشر ساعات من
الوقت.
- هل واجهتكم صعوبة في عبورها؟
- حصلت معنا بعض التعقيدات الإدارية بسبب ملاحظة على جواز سفري كانت تشير إلى منعي من
السفر،وتساؤلات تتعلّق بكميّة الثياب التي حملناها معنا، ولكن السّيد المسيح كان برفقتنا ولم يتخلّ عنّا في تلك
اللحظة الحاسمة وتمّ تجاوزها. وحالما عبرنا الحدود إلى الأردّن شكرنا الرب على نعمته وعنايته الفائقة بنا.
- متى وصلتم إلى البلد العربي الذي لجأتم إليه، وكيف تدبّرت أموركم في البداية؟
- وصلنا إليه في العشرين من شهر نيسان 2000 ، و تمكّنت بفضل بعض المؤمنين بالمسيح من إيجاد مسكن
للعائلة. فسكنت أولا لدى أحدهم واسمه"سعيد"، وقد ذهبت إلى دائرة الهجرة معه لتسجيل الإيجار بموجب القوانين
المرعيّة في البلد. وقد نشأت بيننا وبين أسرته صداقة حقيقية، فلم تنقطع الإتصالات بيننا. غير أننا كنّا دائما
قلقين ومضطرين إلى تغيير أمكنة السكن لأسباب أمنية. فانتهى بنا المطاف إلى إيجاد مسكن آخر لنا بواسطة
إحدى الأخوات المسيحيّات التي وجدت لنا المسكن السابق وذلك في قرية هادئة حيث وجدنا فيها جوا من ال ا رحة
بعيدا عن المدينة ومشاكلها. هناك اندمجنا مع الأهالي وتمكنّا من ممارسة واجباتنا الدينية استعدادا لتقبّل سر
المعمودية. ولكن لم يدم ذلك الهدؤ طويلا.
- ماذا جرى لكم؟ هل طردتم من تلك القرية؟
- كلاّ، ولكن فوجئت في صباح أحد أيام شهر أيار بوصول الأخت المسيحية التي وجدت لنا المسكن. طلبت منا
الرحيل حالا عن تلك القرية، لأن أهلي تمكنوا بواسطة الشرطة من تحديد مكان السكن الأول في المدبنة، أي لدى
أسرة "سعيد". وقد أخبرتنا أن شقيقتي جاءت إلى ذلك المكان وقابلت الأسرة ، وعرضت على صاحب الملك أن
يرشدها إلى مكان سكننا الجديد مقابل مبلغ خمسة آلاف دولار، إلا أن هذا الأخير رفض ذلك.
- وهل رحلتم عن تلك القرية
- فكّرنا بالرحيل ولكن إلى أين. لم يكن في الأفق أمامنا أي مخرج. قررنا رغم ذلك البقاء في تلك القرية حتى
يتسنّى لنا رؤية أمل جديد وقبول سر المعمودية الذي كنّا ننتظره بفارغ الصبر. ولكننا أدركنا أن الأسرة ما ا زلت
تبحث عنا والوالد يضع كل طاقاته وٕامكانياته المادية والمعنويّة في تتبع أثرنا والقضاء علينا. لذلك خففنا كثي ا ر من
الخروج من البيت فاقتصرنا فقط على الذهاب مرة واحدة في الأسبوع إلى الكنيسة.
- رغم كل شيء كان همّكم قبول سرّ المعموديّة، ما هي الخطوات التي أقدمتم عليها في سبيل ذلك؟ هل قمتم
باتصالات مع السلطات الكنسيّة المحليّة في سبيل ذلك؟
- في الحقيقة منذ وصولنا إلىذلك البلد العربيّ واستقرارنا السكني نسبيّا، طلبنا من أحد المسؤولين في الكنيسة
تعميدنا لكي ننتمي فعليا، عبر هذا السر، إلى جسد المسيح الذي هو الكنيسة. فقد أجرى هذا المسؤول إتصالات
مع "الأب غب﷼" ومع الإخوة المسيحيّين الذين تعرّفنا عليهم. فقد تأكّد تماما من صدقية ق ا ررنا ومن اقتناعنا العميق
بحاحتنا إلى المعمودية التي تطهر نفوسنا من الخطيئة وتسمح لنا بحياة جديدة مع المسيح. وهكذا بعد عدة
جلسات تحضير وٕاعداد، تمّ تعميدنا في كنيسة بسيطة جدا بعيدا عن الأنظار وتحاشيا لكل طارئ وذلك في الثاني
والعشرين من تموز عام 2000 . وبعد المعمودية حضرنا القداس الإلهي وتناولت بشوق حار "خبز الحياة" الذي
أصبح منذ ذلك الحين مصدر قوتي وفرحي الدائم.
- ما هي الخطوة التي أقدمت عليها بعد المعمودية؟
- كان عليّ بعد ذلك إيجاد عمل أستطيع من خلاله إعالة أسرتي والبدء بحياة جديدة دون الإستغاثة أو الإستعانة
بالآخرين أو بالكنيسة. فبعد بحث طويل عيّنت مشرفا في ورشة بناء كنيسة. وعند إنجازها، سمح لي بالإقامة في
المسكن المخصّص لوكيل الكنيسة وممارسة المهام المنوطة به.
- يبدو أنك في تلك الفترة وفي ذلك المكان بالذات، تفاجأت بمواطن ع ا رقي مسيحي، كيف حصل ذلك؟
- خلال عملي هذا تسنّى لي التعرّف على مسيحيّين آخرين من أصدقاء "سعيد" واالسيّدة المسيحيّة، من بينهم
"تياري" وهو خبير أوروبيّ كان يعمل في مشاريع التعاون، وزوجته "ألين" اللبنانية الأصل، الأمر الذي سهّل علينا
عملية التواصل. وفي أحد الأيام، جاءني "سعيد" برفقة مواطن ع ا رقي مسيحي، فعرفت أنه من جبال الع ا رق الشمالية
القريبة من كردستان ، حيث يقطن معظم المسيحيّين الع ا رقيّين. وخلال الحديث معه، تبيّن لي أنه من نفس قرية
"مسعود"، أول مسيحيّ تعرّفت عليه أثناء الخدمة العسكرية. وعندما سألته عن أحواله، أخبرني بأنه قضى نحبه
في حادث سيارة بعد انتهاء خدمته العسكرية بثلاثة أيام فقط.
- حتما كان هذا الخبر مؤلما لك؟
- في الواقع، لم يؤلمني فقط بل أثار لديّ نوعا من الإحباط. فجأة برزت بقوة فترة من تاريخي كنت أعتقد أن
ذك ا رها ا زلت مع مرور الزمن. أخذت أفكّر بالأسرة التي تركها مسعود و ا رءه، بالأيام المباركة التي قضيناها معا في
الثكنة، بالصلوات المشتركة، بمشروع الهرب من عائلتي إلى المناطق المسيحية. ذكّرني بما كان يروي لي من
قصص الشهداء بين المسيحيين الأولين، وكم كنت أتمنى أن تكون لديّ نفس الج أ رة والشجاعة والقوة. تذكّرت كم
تألمت سابقا لعدم إتصال "مسعود" بي دون معرفة السبب. ولكن الرب سمح لي بعد مرور ثلاثة عشر سنة بمعرفة
حقيقة ما جرى له.
- هل دفعك هذا الحدث بالتفكير بهجرة جديدة إلى أوروبا؟
- بعدما اتّضحت لديّ أشياء كثيرة، شعرت بأنني أصبحت في تلك الفترة أكثر استعدادلإيجاد كخرح يسهّل لي
اللجوء أإلى بلد أوروبيّ، وذلك لتأمين مكان هادئ تعيش فيه أسرتي بسلام بعيدا عن مضايقات أهلي الذين
سيواصلون البحث عني في الأ ا رضي العربيّة. قمت باتّصالات جديدة مع مكتب المفوّضيّة العليا لشؤون اللاجئين
التابع للأمم المتحدة سعيا إلى إيجاد بلد غربي يقبل لجوئي إليه. وقد جرت الإتصالات بهذه الوكالة عبر قنصلية
أوروبيّة.
- وهل نجحت المساعي في الحصول على لجؤ في الخارج؟
- لقد تعثرت كثي ا ر في البداية، وذلك بسبب أحد العاملين في المفوّضية العليا للاجئين، المدعو "صفيان" وهو مسلم
فرنسي من أصل ج ا زئري كلّف بالاهتمام بملفّنا. فبعد أن أعلمته بما جرى لنا شفهيّا، طلب مني كتابة كل ذلك
بالتفصيل منذ البداية وحتى هربي من الع ا رق. فلم أرضخ لهذا الطلب لأني لم أركن لكلامه ولم أثق به، خوفا من
أن يتسرّب النصّ المطلوب إلى المخاب ا رت وتكون له انعكاسات خطيرة. لذا سُمح في البداية لزوجتي ولولديّ باللجؤ
إلى أوروبا، بانتظار أن ألتحق بهم بعد الإنتهاء من درس ملفّي.
ما هو السبب الذي دفع المف وضية العليا إلى الإهتمام بملفّك الشخصي؟
- السبب أعطاه، لا بالأحرى اختلقه، السيّد "صفيان" هذا الموظّف الذي كان يتبجّح بميوله واقتناعاته العلمانيّة.
فخلال حفلة استقبال رسمي في إحدى المناسبات مع مواطنين غربيّين، سأله أحد الحضور عن السبب، فأجابه
بأنه "حصل على معلومات من المخاب ا رت تفيد بأنني شاركت، أثناء وجودي في الجيش، بتدمير كنائس في شمال
الع ا رق وبقتل الأك ا رد بالغاز. وبالتالي، يعتبر اعتناقي للمسيحية أم ا ر مشبوها للغاية". ومن خلال هذا التصريح كان
المدعو "صفيان" يحاول توجيه رسالة إلى الغربيّين مفادها بأنهم يريدون استقبال أناس مجرمين، إضطهدوا
المسيحيّين قبل اعتناقهم الدين المسيحي.
- كيف واجهت هذه الإدعاءات الكاذبة؟
- لم أعبّر عن سروري في البداية عن رفضي تسليم "صفيان" نصّا مكتوبا يشير إلى كل م ا رحل الإضطهاد
والتعذيب التي عانيت منها، وذلك لأنه شكّك في مصداقياتي، ثمّ لأن زوجتي لم تكن قد أعطت جوابا على ق ا رر
المفوضية العليا. فالب ا رهين التي اختلقها "صفيان" تبيّن سمة انتمائه للإسلام وتجذّره تعاليم هذا الدين في نفسه
ومعاداته لغير المسيحيّين بالرغم من كل ما يعلنه أمام الآخرين عن حياده الديني وتمسّكه الشديد بالعلمانيّة. غير
أن "صفيان" هذا هو نموذج واضح للإزدواجية المؤلمة التي يعيشها ويتخبّط فيها مسلمون كثيرون.
- ما كان جواب زوجتك على ق ا رر المفوّضية العليا للاجئين؟
- كنت أتصوّر بأنها لربما تقبل بهذا الق ا رر أملا بالإستفادة من هذه الفرصة وتوفير جوّ مريح للأولاد. إلا أنها
عندما استُدعيت إلى مكتب المفوّضيّة وتمَّ إبلاغها بالق ا رر، رفضته بشكل قاطع، إذ قالت للمسؤولين: "نحن هربنا
من الع ا رق بسبب إيمان زوجي بالمسيح والصعوبات التي تحول دون ممارساتنا الدينية بحريّة هناك. فمن
المستحيل أن أسافر الآن وحدي مع الأولاد إلى الخارج ويبقى زوجي المستهدف الأول وحده هنا عرضة للملاحقات
والتهديدات."
- كيف استقبلت رفض زوجتك للعرض؟
- اعتبرت هذا الموقف من قبل زوجتي أهم وأكبر تعبير عن حبّها وٕاخلاصها وصدقها تجاهي.أدركت تماما أن
إيمانها بالمسيح قويّ للغاية وبالتالي ستبقى عازمة على تحمّل المصاعب والحواجز التي تواجهنا. فهذا الموقف
الذي اتخذته هو كذلك دليل حبّ سام يعلو على كل المخاطر التي تترصد بنا، وبالتالي يدحض افت ا رءات "صفيان"
الموظّف الدولي الذي عمل على إذلالي وتلطيخ ك ا رمتي وسمعتي.
- أثناء ذلك يبدو أن البحث عنك من قبل الأسرة لم يتوقف، فكانت لك بالمرصاد. ماذا جرى لك في أواخر كانون
؟ الأول عام 2000
- قبل أيام من عيد الميلاد المجيد في تلك السنة، ذهبت إلى أحد الأسواق في المدينة لأشتري هديّة لبنتي. وبينما
كن